الثورة والإسلام
للإسلام نورانية لا تبرح تشرق في غياهب النفوس التائهة فتنيرها، وفي اعتناقه طمأنينة لا تزال تتبوأ القلوب الغويّة فتزيح عنها الضلالة والغواية؛ فتمسي سابحة في بحرٍ من النور العظيم. الإسلام دين الله الحق؛ (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه؛ وهو في الآخرة من الخاسرين)(سوره آل عمران 85).
ولما كان الشعب الجزائري مسلماً فقد كان منتظراً أن يستند إلى هذه القيم الروحية في مقاومته الاستعمار الفرنسي بحكم اختلاف الانتماء والمعتقد واللسان؛ لكي يستمد من تلك القيم العظيمة قوته وشجاعته وآماله العراض.
وعلى الرّغم من أن المدّ الإلحاديّ لم يبرح بعض الفلاسفة والمفكرين ومعهم الزنادقة يروجونه، منذ فجر الإنسانية إلى عهدنا هذا، وقد يستمر ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هنا وهناك من العالم، في هذه الكتابة الأدبية أو تلك الفلسفية؛ إلا أن الإشعاع الدّيني الروحي يظل هو الأغلب في سلوك معظم الناس وتفكيرهم منذ كانوا، والأكثر توغلاً في قلوبهم، والأعمق تولجاً إلى نفوسهم. ذلك بأن الدين لا يبرح شديد التأثير في سلوك الناس ونفوسهم أخلاقياً، واجتماعياً وسياسياً، وحتى عسكرياً، فالظاهرة الدينية تظل أبداً هي الحقيقة العليا لدى التماس العوامل المؤثرة في الحياة العامة للناس. ولا يمثل الإلحاد في نفوس بعض الناس إلا مرحلة طائشة من حياتهم، غالباً، كثيراً ما تنتهي بالرجوع إلى الله، والإقبال على الإيمان بقلب خنوع خشوع؛ ذلك بأنه لا يوجد خارج وجود الله غير الفراغ والعدم.
عودة إلى الدين
ولم تُفلت السياسة الأمريكية، (الولايات المتحدة الأمريكية كما نعلم هي أعظم دول العالم وأعتاها قوةً في الزمن الراهن)، وخصوصاً بعد الكارثة التي تعرضت لها بعض مدنها الكبرى في حادي عشر سبتمبر سنة 2001 من اصطناع الدين، إما سلباً وإما إيجاباً بحسب ما تقتضيه الظروف والأطوار، وذلك لدى التعامل مع الظاهرة الإرهابية في عصرنا هذا، ولم تسلم سياستها الغامضة الواضحة معاً، أثناء ذلك، من التناقض البادي في موقفها من الإسلام بضرب هذا المسلم هنا باليمنى، وتقديم القمح إلى آخر هناك باليسرى، والله أعلم بحقيقة ما في السرائر، وما تخفيه الضمائر..
ولقد لفتت الظاهرة الدينية، في عهدنا هذا، الفلاسفة والمفكرين فبدؤوا يقفون لديها، ويحللون أسسها وأسبابها وتأثيراتها؛ ومن ذلك مقالة كتبت في ملحقات الموسوعة العالمية بعنوان: "عودة الدينيّ؟".
وإذا كانت هذه المقالة التي دبجها (أوجي) كتبت من وجهة نظر فرنسية خالصة، فأعادت هذا التأثير إلى مظاهرات 1968 في فرنسا، ثم إلى حركة آية الله الخميني في إيران، ثم إلى حنين البابوية المعاصرة في الفاتيكان إلى العهد اللاتيني؛ فإن اليقظة الإسلامية التي تتحدث عنها المقالة وُجدت قبل ظهور الإسلام السياسي بكثير؛ فالمقاومة الوطنية، نهضت منذ انطلقت إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، وتلقائياً، على البعد الروحي أساساً، ولكن في سماحة الإسلام ونورانيته دون تعقيد عقيدته بالتسييس كما يفعل الآن كثير من الذين يحلمون بالإسلام السياسي ليتربعوا على كراسي الحكم...!
الدين والوطن
وأياً ما يكن الشأن، فإن المقاومة الوطنية الجزائرية لما جاءت تنهض لتفعل فعلها مع المحتلين الأوروبيين (الأسبان والفرنسيين خصوصاً)؛ لم تجد شيئاً، بعد عاطفة حب الوطن الجيّاشة، تستند إليه غير الالتجاء إلى الدين الإسلامي الحنيف تستظهر به على مقاومة الأعداء، وتشتد به لدى ساعات الحرج والضيق؛ فكان مفعول الدين وتأثيره في عامة التصرفات للمجاهدين والمقاومين كبيرين منذ بدء المقاومة الوطنية على عهد الأمير عبدالقادر، (بل أثناء محاربة الأسبان أيضاً في مدينة وهران على مدى قريب من ثلاثة قرون) إلى اضطرام نيران ثورة التحرير عام 1954، وتألق أنوارها في الوقت نفسه، في فاتح نوفمبر من عام أربعة وخمسين وتسعمئة وألف.
وإنا لنلاحظ، أن عامة الثورات والانتفاضات الوطنية التي اندلعت ضد المحتلين الفرنسيين في الجزائر (وقد يصدق ذلك أيضاً على شأن المقاومة الوطنية، قبل ذلك، ضد الأسبان) إنما انطلقت في أصلها من عقر المؤسسات الدينية، وصحون المساجد خصوصاً، فكان قادتها من علماء الدين، (ولا نستثني من ذلك إلا بعض حركات المقاومة الأخرى).
غير أن المقاومة بعد الحرب العالمية الأولى بدأت تتأسس على أساس عصري ينهض على الحزبية السياسية قبل كل شيء، ولكن الثورة الجزائرية حين اشتعلت نيرانها في كل شبر من أرض الوطن سرعان ما فزعت إلى الروحيّات تستمد منها قوتها؛ كما كانت تفعل ذلك، من قبل، المقاوماتُ الوطنية الأخرى.
ولقد يعني ذلك أن عامة المقاومات الوطنية استندت في اشتعالها وتأججها وتحسيسها للشعب الجزائري على العاطفة الوطنية ممتزجة بالعاطفة الدينية في الوقت ذاته؛ فكان الإيمان بالله العظيم هو الذي يُذكي حماسة المقاتل ويدفعه إلى البلاء الحسن في المعارك، والمسارعة إلى التضحية بالنفس في سبيل الله، وذلك على أساس أن المقتول في معركة الدفاع عن الوطن هو شهيد، حي يرزق عند الله مع الشهداء والصالحين؛ فكان ذلك من العوامل الروحية التي كانت تحمل الشباب على التنافس والتسابق من أجل الالتحاق بجيش التحرير الوطني للدفاع عن الوطن، وتحريره من رجس الاستعمار الفرنسي...
أبناء مجاهدون
ولقد كان الشباب الذي يُرفض طلبه، أو يؤجل قبوله في صفوف المجاهدين ولو إلى حين، يصاب بالحزن الدفين، والأسى المكين! وكان الفتيان من أولي السابعة عشرة، والثامنة عشرة، أو نحوهما، كثيراً ما يبادرون إلى إبداء رغبتهم العارمة، لأقرب مسؤول إليهم في جبهة التحرير الوطني حتى دون علم الوالدين، في بعض الأطوار، وكان الآباء يفتخرون أعظم الفخر بأن لهم أبناءً يقاتلون في الجبال من أجل تحرير الوطن؛ وأنهم بتجندهم أمسوا من المجاهدين الأبرار، والرجال الخالدين، فإن استشهدوا دخلوا الجنة فتنعموا فيها مع الصديقين والشهداء والصالحين وهم أحياء يرزقون.
وأمام هذه العوامل الروحية السامية لم يكن هناك ما يجعل الآباء يقلقون على أبنائهم المجاهدين الذين استأثروا باكتساب إحدى الصفتين العظيمتين: فإما نيل منزلة الجهاد، وإما نيل منزلة الاستشهاد. ولا توجد منزلة أعلى منهما عند الله وعند الناس.
القوة الروحية
ولقد أنَى للمؤرخين أن يتوقفوا طويلاً، وعميقاً، لدى الخلفيات الروحية للمقاومة الوطنية أثناء الثورة الجزائرية بخاصة.. ذلك بأن ثورة، كثورة فاتح نوفمبر، لا تمتلك من العُدد والعَدد إلا ما قد كان يعادل واحداً في المئة بالقياس إلى ما كانت تمتلكه قوات الاحتلال الفرنسية أو أقل من ذلك؛ فلم يكن المجاهدون يمتلكون دبابات، ولا مدفعية ثقيلة، ولا صواريخ، ولا طائرات يهاجمون بها، أو يدافعون عن أنفسهم بواسطتها؛ ثم يستطيعون، أثناء ذلك، هزم قوةٍ عالمية عاتية قوامها قريب من ألف ألف جندي ممن كانوا مدربين تدريباً عالياً، وممن كانوا مجهزين بأحدث ما أنتجته مصانع الأسلحة العصرية الفتاكة آنذاك.. تلك الثورة لشيء يدعو المؤرخ المحايد، أو المحلل الذي يتخذ من الموضوعية سيرة صارمة يسلكها في الكتابة التاريخية، إلى التساؤل والإعجاب والتقدير معاً: فكيف استطاعت هذه القوة العسكرية البسيطة (بنادق صيد، ومسدسات، ورشاشات خفيفة، ومدافع هاون، ومدافع صغيرة قريبة المدى، في المرحلة الأخيرة من الثورة) أن تتغلب على قوة أوروبية عاتية تنتمي إلى الحلف الأطلسي بكل ما كان لديها من القض والقضيض؟ وما السر العظيم الذي كان وراء هذا الانتصار الباهر، بعد تضحيات جسامٍ على كل حال؟ أهي مجرد شجاعة المجاهدين والفدائيين وتضافر جهود كل الوطنيين وعزم الشعب الجزائري على تكسير القيود، وإصراره على فك الأغلال بقيامه قومة رجلٍ واحد وراء المجاهدين، مهما تكن فداحة التضحيات؟ أم يجب أن نلتمس لذلك عللاً أخرى، تضاف إلى هذه، لكي نتحدث عن شبكة معقدة من عوامل القوة والشموخ في الثورة الجزائرية؟
وأياً ما يكن الشأن، فإن القوة الرّوحية لا ريب في أنها أسهمت إسهاماً حاسماً في تعجيل النصر، وتكثيف التضحيات، وإقبال الشباب على الموت برغبة عارمة تكاد تخرج عن إطار الواقع المألوف، وتدخل في إطار الخوارق للعادة!
ذلك بأن المجاهدين كانوا يحرصون على الشهادة، في المعارك التي كان جيش التحرير يخوضها ضد المحتلين، بمثل ما كان يحرص جنود الاحتلال على الإفلات من الموت، والنجاة من الهلاك، وليسوا سواءً: مجاهدون راغبون في الموت يزحفون إليه زحفاً، وجند حراص على الحياة الدنيا حرصاً.
التنافس في الاستشهاد
ولعل العلة الخفية التي كانت وراء الشجاعة الفائقة للمجاهدين الجزائريين وتفانيهم لا تَمْثُلُ في حب الوطن وحده، بل إن البعد الروحي الذي كان يملأ قلوبهم بالإيمان زادها قوة وشراسة فكان ذلك يحملهم على التسابق إلى خوض المعارك حملاً، ويزدجيهم إلى التنافس في الاستشهاد تنافساً؛ فحب الوطن هو أعظم حب حقاً، غير أن الناس جميعاً قد لا يمتلكون من هذا الحب الكريم المقدار الكافي الذي يدفعهم إلى أن يجودوا بأنفسهم من أجله وهم سعداء مسرورون..
من أجل ذلك جاء، هنا، دور البعد الروحي الذي عرف لدى الشعب الجزائري منذ قرون طوال؛ فأفعم القلوب بالإيمان حتى أمسى الشبان الجزائريون يلتمسون نيل الشهادة وهم متفانون مُقْدِمون. ومهما يكتب الكاتبون، ويسجل المؤرخون؛ فإن ذلك قد لا يفي حق شجاعة المجاهدين الجزائريين أيام ثورة التحرير؛ فقد لا يصدّق ذلك إلا من شاهد ورأى، أو شارك وأسهم، في تلك المعارك التي كانت ربما، عند افتضاح أمر مكامن المجاهدين من العدو، تدوم أياماً طوالاً، وفي براح من الأرض، وعراء من الفضاء، وبمجرد السلاح الخفيف الذي كان يمتلكه المجاهدون مقابل قصف المدفعية الثقيلة واصطناع السلاح الجوي للعدو؛ فكانوا يقاومون مقاومة شرسة يقل لها النظير في التاريخ، دون أن يستسلم أي منهم للعدو أسيراً أنفةً واعتزازاً، ودون أن يفر من الزحف لأن ذلك من الكبائر من الوجهة الدينية، ولأن الفرار لا يليق بالشجاع الجزائري من الوجهة الوطنية
7
7
7
7
7
__________________
مـعـك من كـل قلـبـى
مـعـك من كـل قلـبـى
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 18:09 من طرف رياك نعيم أمين
» الزمن القديم باقات العربسات القديم صدام كسرت غربا
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 10:08 من طرف رياك نعيم أمين
» أقمار يوتل سات على الغرب
الإثنين 22 أبريل 2024 - 19:16 من طرف رياك نعيم أمين
» دي خشت بعد أحتلال بغداد بداية الفرنسية على الغرب أتلانتيك بي
الخميس 14 مارس 2024 - 23:19 من طرف رياك نعيم أمين
» مستعدين لدي مليون بث أيقاف من العصر هلها فيها مازال
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 21:24 من طرف رياك نعيم أمين
» دورة إدارة الحملات الإعلامية الفعالة أثناء الأزمات
الثلاثاء 23 يناير 2024 - 17:40 من طرف نورهان ميتك
» دورة مهارات الكتابة والتدقيق اللغوي القانوني
الأحد 12 نوفمبر 2023 - 10:50 من طرف نورهان ميتك
» دورة السلامة والصحة المهنية في المشروعات الهندسية 2024
الخميس 9 نوفمبر 2023 - 13:57 من طرف نورهان ميتك
» دورة التصفية المحاسبية للمنتجات التمويلية للبنوك التجارية
الخميس 9 نوفمبر 2023 - 13:45 من طرف نورهان ميتك
» شوفي دي ???? ???? ????
الأربعاء 8 نوفمبر 2023 - 11:26 من طرف رياك نعيم أمين
» زمان زمان nilesat iraq waأيام الريسيفرات اللي تشيلها بالقوه
الإثنين 11 سبتمبر 2023 - 17:12 من طرف رياك نعيم أمين
» eutelsat b france
الأربعاء 6 سبتمبر 2023 - 17:58 من طرف رياك نعيم أمين
» دورات المحاسبة المالية و الحكومية | Financial accounting and
الأحد 11 يونيو 2023 - 14:08 من طرف نورهان ميتك
» دورات المراجعة والتدقيق Audit courses
الأحد 11 يونيو 2023 - 14:01 من طرف نورهان ميتك
» لماذا واي الجزائر على عربسات ماللذي تغير قرون وسنين
الأربعاء 24 مايو 2023 - 13:55 من طرف رياك نعيم أمين
» استخدام شبكة الانترنت في إدارة المشاريع الهندسية
الأحد 15 يناير 2023 - 17:08 من طرف نورهان ميتك
» أهلا ياجماعة جزائر طولتوا الموافقه نحنو أليت تيم 7
الإثنين 12 ديسمبر 2022 - 14:50 من طرف رياك نعيم أمين
» دورة الجودة في خدمة العملاء – ايزو 10002 لعام 2020
الأحد 5 يوليو 2020 - 17:32 من طرف مركز تدريب جلف
» دورة الايزو 17025 ونظم اتحاد المعامل ISO 17025 لعام 2020
الأحد 5 يوليو 2020 - 17:30 من طرف مركز تدريب جلف
» دورة نظام تقييم الأداء المتوازن لعام 2020
الأحد 5 يوليو 2020 - 16:38 من طرف مركز تدريب جلف